فمن قصص القرآن العظيم قصة أصحاب الجنة التي قال الله فيها: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم: 17-33].
المعنى الإجمالي للقصة
هذا المثل الذي ضربه الله تعالى لكفار قريش، ولكل إنسان أعطاه الله نعمًا من المال، والولد، والصحة، والعمر، ونحو ذلك، ثم حمله هذا على الأشر، والبطر، والبخل، ومعصية الله ، ومحاربته، ولم يؤد حق الله فيما أنعم عليه، فإن عذاب الله له بالمرصاد؛ لأنك كلمة العذاب إذا حقت وقعت، فيمحق الله النعمة، ويسلبها من صاحبه إياها، هذا غير ما ينتظره يوم القيامة من العذاب الشديد، إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ [القلم: 17].
إذًا هناك ابتلاء، واختبار كل صاحب نعمة يجب أن يعلم بأنه مبتلى، ومختبر من الله بهذه النعمة، سواء كانت مال، منصب، زوجة، أولاد، صحة، عمر، بيت، استقرار، أمن، وهكذا مكانة اجتماعية، إذًا هي ابتلاء، ما أعطيتها إلا وأنت مختبر ممتحن، كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ[القلم: 17]، البستان العظيم المشتمل على ألوان الثمار والفواكه، لقد أينعت أشجارها، وزهت أثمارها، وحان وقت صرامها وقطافها، وجزموا أنها في أيديهم، وطوع أمرهم، وأنهم مستحوذون عليها، ليس هناك مانع يمنعهم -في ظنهم- منها، ولذلك أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [القلم: 17]، حلفوا ليقطعن ثمارها في الصباح الباكر، لماذا يريدون التبكير بقطع الثمار؟
لئلا يعلم بهم الفقير والسائل؛ ولكي يستحوذوا على الثمر كله، ولا يتركوا منه شيئًا، ولم يعلموا أن الله لهم بالمرصاد، لدرجة أنهم لا يستثنون، وَلَا يَسْتَثْنُونَ [القلم: 18]، لم يقولوا: إن شاء الله فيما حلفوا عليه، بل عزموا على الفعل، وهكذا فإنهم لم يستثنوا في الحلف، ولم يستثنوا فقيرًا ولا مسكينًا من المنع، إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ [القلم: 17-18]، لا يستثنون أحدًا من المستحقين، لو كان فيهم خير لقالوا: سنأخذ الثمار إلا ما نعطيه أصحاب الحاجات، إلا ما خصصناه للفقراء، لكن لقد استقر رأيهم على أن يقطعوا الثمار في الصباح الباكر دون أن يستثنوا شيئًا للمساكين، وهنا حلت العقوبة، أليس قد عزموا على المعصية؟ بيتوا الأمر بالليل، بيتوا الجريمة، خططوا لها، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ [القلم: 19]، ما هو هذا الطائف؟ آفة سماوية، عذاب نزل من السماء من الله ، أتى ليلاً، وَهُمْ نَائِمُونَ [القلم: 16]، والطائف بلغة العرب لا يكون إلا ليلاً، فإذا قال: فَطَافَ عَلَيْهَايعني: بالليل، وَهُمْ نَائِمُونَمستغرقون في سباتهم، غافلون عن مكر الله بهم، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم: 20]، كالليل الأسود في احتراقها، وكالبستان الذي قطع ثماره فلم يبق منه شيء، كَالصَّرِيمِ مصروم، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ [القلم: 21] على حسب اتفاقهم السابق، وهم على الخطة سائرون، ونادى بعضهم بعضًا ليذهبوا إلى الجذاذ والصرام وقطع الثمار، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ[القلم: 21]، هلموا، هيا لنذهب، أَنِ اغْدُوا [القلم: 22]، اخرجوا غدوة أول النهار، عَلَى حَرْثِكُمْ [القلم: 22]، بستانكم، إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ [القلم: 22]، تريدون جني ثماره، إن كنتم عازمين على رأيكم، وصارمين فيما أردتموه، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ[القلم: 23]، يتناجون فيما بينهم بحيث لا يُسمعون أحدًا كلامهم، مسرين بالكلام خوفًا من أن يصل الخبر إلى أسماع الفقراء، ولكن وصلت هذه المخافتة، لقد علم الله خبرها، يعلم السر وأخفى سبحانه، كيف يخفى عليه هذه المخافتة؟ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ [القلم: 23].
يتواصون فيما بينهم بحرمان الفقراء، يتواصون فيما بينهم ويتعاهدون بألا يبذلوا منها شيئًا لله، انظروا إلى هذه الجريمة ما أبشعها، انظروا إلى هذه النية السيئة ما أعظمها وأسوأها، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ [القلم: 23-24].
هذه هي الخطة اليوم، ولا واحد ولا مسكين لا تمكنوا فقيرًا يدخل عليكم، سنغلق علينا ونقطف الثمار، ولن نعطي أحدًا منها شيء، البخل ومنع حق الله في الثمرة، ومنع الفقراء من نصيبهم، ولذلك أمرنا الله بقوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141] لقد انطلق هؤلاء النفر، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ [القلم: 25] جد، وقصد، وغيظ، وغضب، وقوة، وشدة، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ [القلم: 25] على إمساك ومنع لحق الله، هذه النفوس المريضة المملؤة بالغصب والغيظ لا يمكن أن تعطي الآخرين شيِئًا، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ [القلم: 25] في زعمهم، وفي ظنهم أنهم سيستطيعون، وأن المساكين لن ينالوا شيئًا.
وعندما وصلوا إلى المكان، ونظروا فيه ظنوا أن العنوان خطأ، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ [القلم: 26] فلما أشرفوا عليها، وإذا هي محترقة سوداء، اعتقدوا أنها أخطؤوا الطريق، سلكوا طريقًا غير الطريق المعتاد، ليست هذه جنتنا، ولا هذا بستاننا، ليس هذا مكاننا، ليس هذا الذي نعرفه، هذا يختلف تمامًا، إذًا نحن ضللنا الطريق، إِنَّا لَضَالُّونَ لكن لما تأكدوا، ونظروا، ورجعوا، وفكروا، فإذا هي هي، هذا هو المكان، ولذلك اكتشفوا الحقيقة فقالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [القلم: 27] حرمنا الله جنتنا بعزمنا على المعصية، اكتشفوا الحقيقة الهائلة، وماذا حصل في الليل، وأدركوا أن الله انتقم منهم، وهنا سيرجع بعضهم باللوم على بعض، ويظهر الأسف والحزن، وتعلو الكآبة الوجوه لحجم الكارثة.
قَالَ أَوْسَطُهُمْ [القلم: 28] أعدلهم وأخيرهم إن كان فيهم خير، الناس يتفاوتون في الشرور كما يتفاوتون في الخير، فقال أحسنهم حالاً أوسطهم، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143] يعني: خيارًا عدولاً، قَالَ أَوْسَطُهُمْ أفضلهم، أقلهم سوءًا، أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ [القلم: 28]، لولا تستثنون، والاستثناء هو قول: إن شاء الله، وقيل: إن استثناءهم في ذلك الزمان كان تسبيحًا، وقيل: معناه فهلا سبحتم الله، وشكرتموه بإعطاء الفقراء، أو هلا نزهتم الله عما لا يليق به عندما ظننتم أن قدرتكم تامة، وأنه لا يقدر عليكم، هلا سبحتموه واعتقدتم أنه يقدر عليكم بدلاً من أن تظنوا أنه لا يقدر عليكم، وأنكم ستفعلون ما تريدون بلا شك ولا ريب ولا استثناء؟ هلا جعلتم مشيئتكم تابعة لمشيئة الله بدلاً من أن يجري عليكم ما جرى؟ هلا تذكرتم الله، وتبتم إليه من خبث نيتكم؟ هل يمكن أن يكون هذا الشخص مخالف لهم في النية؟ أو أنه نهاهم فعصوه؟ أو أنه رجع كان أقلهم سوءًا؟ فالله أعلم.
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [القلم: 29]، أقروا على أنفسهم بالظلم، وسبحوا الله، واعترفوا بذنبهم حين منعوا المساكين، بعدما نزل بجنتهم العذاب الذي لا يرفع، إن تسبيحهم هذا وإقرارهم على أنفسهم بالظلم يمكن أن ينفعهم في تخفيف الإثم، ويمكن أن يكون توبة، لكن لا يرفع عذاب الدنيا الذي نزل.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ [القلم: 30] بعد الندامة العظيمة التي حصلت يتلاومون، كل واحد يلقي بالخطإ على الآخر، كل واحد يتهم الآخر، وهكذا يحصل بين المجرمين عندما يسقط في أيديهم، عندما يحاصرون، عندما يعثر عليهم، عندما يواجهون الموقف الصعب، كل واحد يرمي على الآخر القضية.
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ [القلم: 31]، اعترفوا بالذنب، لقد اعتدينا، وبغينا، وطغينا، وجاوزنا الحد حتى حل بنا ما حل، عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ [القلم: 32]، رغبوا في بدلها في الدنيا، أو احتسبوا ثوابها في الآخرة، إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ، بالعفو عما فرطنا فيه، والتعويض عما فاتنا، إذًا هؤلاء القوم بعدما حلت بهم المصيبة رجعوا إلى أنفسهم، ورجعوا إلى الله، واعترفوا بالذنب، ورغبوا إلى الله بالتعويض، عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا، وربما يكون العذاب نعمة، ربما تكون المصيبة في الدنيا إذا حصلت للواحد من الناس نعمة من جهة أنها ترده إلى صوابه، وتعيده إلى طريق الحق.
قال الله تعالى: كَذَلِكَ الْعَذَابُ [القلم: 33]، هكذا عذاب الله الدنيوي لكل من خالف أمره، ومنع الحقوق، وبدل نعمة الله كفرًا، هذه عادتنا في الانتقام من العصاة والطغاة في الدنيا، ولكن الآخرة أشد، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم: 33]، هذه القصة نحن لا نعلم من الآيات أين حصلت؟ وما أسماء الأشخاص؟ وما اسم المنطقة؟ وما اسم البلد؟ هل كانت في اليمن؟ هل كانت في الحبشة؟ هل كانت في أهل الكتاب؟ هل كانت في غيرهم؟ هذا لا يهم، المهم هو أخذ العبرة والعظة والاعتبار.
الدروس والعبر المستفادة من القصة
من عبر القصة:
أن من فر وجوب الزكاة بالحيلة، فإن الزكاة لا تسقط عنه، ووجه ذلك من القصة أنهم لما قصدوا بقطع الثمار إسقاط حق المساكين عاقبهم الله بإتلاف الثمار، إذًا لو أن شخصًا على سبيل المثال منع حق الله، ثم تاب بعد مدة، قال: أنا ما زكيت سنوات هل تسقط عني الزكاة بالتوبة؟ هل التوبة تسقط عني الزكاة؟
نقول: كلا الزكاة حق لله تعالى في المال، وحق للمستحقين، فلا تسقط، ولو تاب الإنسان ما دام مسلم يجب عليه أن يزكي، يخرج الزكاة عما مضى
ليست هناك تعليقات:
كتابة التعليقات