في القطار
تذكَّرت في أوطَانيَ الأهل والصحبا
فأرسلت دمعًا فاض وابله سكبا
وبتُّ طريد النَّوم أختلس الكرَى
بشاخص طرف في الدجى يرقب الشُّهبا
كئيب كأن الدهر لم يلقَ غيره
عدُوًّا فآلى لن يهادنه حربا
يقِلُّ كروبًا بعضها فوق بعضها
إذا ما رمى كربًا رأى تحته كربا
وإني إذا ما الدهرُ جرَّ جريرةً
لتأنفُ نفسي أن أكلِّمه عَتْبا
وقد علم القوم الكرام بأنني
غلامٌ على حب المكارم قد شبَّا
وأنِّي أخو عزم إذا ما انتضيتهُ
نَبا كلُّ عضب عنه أو أنكر الضربا
وأنِّي أعاف الماء في صفوه القَذى
وإن كان في أحواضه باردًا عذبا
ولكنَّ لي في موقف الشوق عبرة
تساقط من أجفاني اللؤلؤ الرطبا
إذا ضربت أوتارَ قلبي شجُونه
بدت نغمات ترقِص الدمع مُنصبَّا
•••
وقاطرة ترمي الفضا بدخانها
وتملأ صدر الأرض سيرها رعبا
لها مَنخر يبدي الشواظَ تنفسًا
وجوف به صار البخار لها قلبا
تمشَّت بنا ليلًا تجرُّ وراءها
قطارًا كصف الدَّوح تسحبه سحبا
فَطَوْرًا كعصف الريح تجري شديدةً
وطَوْرًا رُخاءً كالنسيم إذا هبَّا
تساوى لديها السهلُ والصعبُ في السُّرى
فما استسلهت سهلًا ولا استصعبت صعبا
تدكُّ مُتون الحَزن دكًّا وإنها
لتنهب سهل الأرض في سيرها نهبا
يمر بها العالي فتعلو تسلُّقًا
ويعترض الوادي فتجتازه وثبا
وتخترق الطودَ الأشم إذا انبرى
وقد وجدت من تحت قُنَّته نقبا
يرنُّ بجوف الطَّوْدِ صوت دَويِّها
إذا ولجَت في جوفه النفقَ الرحبا
لها صيحة عند الوُلوج كأنها
تقول بها: يا طودُ خَلِّ ليَ الدربا
وتمضي مُضيَّ السهم فيه كأنما
ترى أفعوانًا هائجًا دخل الثقبا
تغالِب فعل الجذب وهي ثقيلةٌ
فتغلب بالدفع الذي عندها الجذبا
طوت بالمسير الأرض طيًّا كأنها
تسابق قرصَ الشمس أن يُدرك الغربا
وما إن شكت أينًا ولا سئمتْ سُرًى
ولا استهجنت بعدًا ولا استحسنت قربا
عشيةَ سارت من فَروُقَ تقلُّنا
وتقذِف من فيها بوجه الدجى شهبا
فما هي إلا ليلةٌ ونهارُها
وما قد دعونا من سلانيك قد لبَّى
فجئنا ولم يُعْي السفارُ مطينا
كأن لم نكن سفرًا على ظهرها ركبا
•••
تعاليتَ يا عصرَ البخار مفضلًا
على كل عصر قد قضى أهله نحبا
فكم ظهرت للعلم فيك مَعاجِزٌ
بها آمن السيفُ الذي كذَّب الكُتبا
تظاهرتَ من فعل البخار بقوَّةٍ
يذلِّل أدنى فعلها المَطلبَ الصعبا
وأُقسمُ لولا الكهرباءة فوقَه
لقلت: على كل القوى تِهْ به عُجْبا!
هو العلم يعلو في الحياة سعادةً
ويجعلُها كالعلم محمودة العُقبى
فكلُّ بلاد جادها العلمُ أمرعت
رُباها وصارت تنبتُ العزَّ لا العُشبا
متى ينشئ الشرقُ الذي اغبرَّ أفقُه
سَحابة علمٍ تمطرِ الشَّرف العذبا
فإن دَبور الذل ألوتْ بعزِّه
وكادت سَموم الجهل تحرقه جدبا
تبصَّر إذ دارت رحى الشرق هل ترى
سوى الجهل في أثناء دورتها قُطْبا
شرح الكلمات الصعبة
يقال: انتضى سيفه: إذا سله من قرابه، وقد شبه عزمه بالسيف، ونبا السيف عن الضريبة: رجع ولم يقطع.
الأين: التعب والكلال.
فروق: اسم القسطنطينية.
سلانيك: بلد باليونان.
السفار: السفر.
تظاهرت بقوة: استعنت بها وتقويت.
الدبور: ريح الجنوب، وهي حارة.
نبذة عن الشاعر
يعتبر الشاعر معروف الرّصافيّ واحداً من أشهر الشعراء والكتّاب العرب الذين شاركوا في ترسيخ قواعد الفكر الحضاريّ الحديث، حيث ترك وراءه إرثاً عظيماً تنوّع بين النثر، والشعر، واللغة، والأدب عامة، وقد أهّله هذا الإرث لأن يكون خير مَنْ يقود راية الإصلاح والتجديد بين كتّاب وشعراء عصره، فقد أجاد الرصافي من خلال أشعاره التي كانت متميزة بالشكل والمضمون من وصف مظاهر الحياة التي عاشها شعبه، وبرع في نقل الأحداث التي مرّ بها عصره.
حياة معروف الرصافي
وُلد الشّاعر معروف الرصافي عام 1875م ببغداد في منطقة تسمى الرّصافة، وتلقّى دروسه الابتدائيّة في الكتاتيب، ولكنّه لم يستطعْ الحصول على الشهادة، فترك المدرسة والتحق بدروس العلّامة محمود الآلوسي، وخلال فترة تلقيه الدورس كثّف جهوده في دراسة علوم اللغة العربية والمنطق، وبعد أن أكمل الرصافي تعليمه، وأتقن اللغة العربيّة عمل محرراً في مجلة "سبيل الرثاء"، ثم انتقل بعد ذلك للعمل في مهنة تدريس للغة العربيّة في عدّة مدارس عراقيّة.
( 1875 - 1945 م)
ليست هناك تعليقات:
كتابة التعليقات